بقلم : د. علي سليمان - رئيس جمعية العاملين بالأمم المتحدة
عبر ربع القرن الماضي تغير المشهد السياسي الأوروبي تغيرا كبيرا بدخول أبناء المهاجرين من آسيا وإفريقيا والأقليات العرقية والدينية ليس فقط في مجالات الفن والرياضة بل أيضا في المعترك السياسي، حيث فاز بعضهم في الانتخابات النيابية وبالمناصب الحكومية.
وينبئنا التحليل السياسي والاجتماعي، وكذا تؤكد الخبرة التاريخية، أن صعود الأقليات شيء محتوم مع انتشار أفكار الحرية والمساواة، وبسبب تزايدهم العددي في دول المهجر. ففي الولايات المتحدة مثلا صعد الإيطاليون وأبناء أيرلندا خلال جيلين أو ثلاثة إلى أعلى المناصب بعد عقود من الاضطهاد والانزواء، وتبعهم الأقليات السوداء من أمريكا اللاتينية بعد معاناتهم لسنوات من التمييز والعنصرية.
وفي أوروبا كان نجاح الأقليات في المجال السياسي متفاوتا حسب الدول. فدولة مثل فرنسا تصل فيها الأقليات الأجنبية إلى ما يربو علـــــــى 10 % من السكان، وبرغم تفوقهم في مجال الرياضة والفن، فإن تمثيلهم النيابي وفي أروقة الحكومة ضئيل(أقل من 3 %). وكثير من الناجحين في مجال السياسة، ومنهم عدد من الوزيرات في حكومات ساركوزي، وصلن بسبب تخليهن عن أي شبهة ارتباط بثقافتهن القديمة، وإعلائهن للقيم الفرنسية في الملبس والسلوك وحتى في الزواج من فرنسي أبيض. وقد يرجع قلة نصيب الأقليات في المعترك السياسي إلى قوة الثقافة الوطنية الفرنسية، إلى جانب تحفظ المهاجرين وعدم إقبالهم على العمل العام، وكذا إلى النظام الانتخابي نفسه الذي يتطلب النجاح بنسبة50%+1 ، وليس النجاح بالقائمة النسبية أو فقط على أعلى الأصوات.
وبالمقابل في المملكة المتحدة، حيث وجدت الأقليات لمدة أطول والنظام الانتخابي مختلف، حققت الأقليات وخصوصا من المستعمرات السابقة، وبالذات شبه القارة الهندية والكاريبي، إنجازات كبيرة. وينضوي أبناء المهاجرين في الأحزاب القائمة، ويستفيدون من تجمعاتهم في المدن الصناعية القديمة ولندن. ومثّل السيد “صادق خان” لمنصب عمدة لندن علامة مهمة لهذا التحول الكبير. تلا ذلك وصول مسلم آخر من أصول باكستانية، هو حمزة يوسف، في يونيه 2023، لمنصب رئيس وزراء إسكتلندا، وان لم يستمر إلا لعام واحد. ومع هذه المقدمات لم يتوقع أحد أن بريطانيا البيضاء سوف تنتخب رئيس وزراء أسمر، ليس فقط بسبب اللون، ولكن لأن رئاسة الوزراء في بريطانيا، وبالذات من حزب المحافظين، ترتبط بعوامل ثقافية واجتماعية ومالية معقدة، ومنها الانتماء لمدارس القمة والأصل الاجتماعي والقدرة المالية.
وهكذا وصل ريشي سوناك الهندي إلى 10 دوننج استريت بعد القلاقل على قمة حزب المحافظين بعد سقوط بوريس جونسون وخليفته تراس التي بقت في الحكم فقط 42 يوما. وساعده ليس فقط تعليمه العالي ونجاحه في إدارة الأموال، ولكن أيضا المساندة المادية لزوجته الثرية التى تبرعت لحزب المحافظين بما يقرب من 20 مليون جنيه إسترليني.
ولقد أظهرت دراسة أكاديمية أن الهنود من الديانة الهندوسية، والكثير منهم من أصحاب الأعمال الصغيرة، والعاملين في البنوك والأعمال، ينضمون عادة إلى حزب المحافظين. وبالمقابل فإن المسلمين ينتمون إلى حزب العمال. ولقد أسفرت الانتخابات الأخيرة، 5 يوليو 2024، عن نجاح نحو 26 عضوا من أصول هندية، و25 عضوا مسلما. ويمثل العدد الأخير أكبر نجاح لمرشحين مسلمين في مجلس العموم، وكان عددهم 19 في انتخابات 2019. وإلى جانب الأقليات من شبه القارة الهندية هناك أيضا الأقلية السوداء من إفريقيا والكاريبي. وكانوا أسرع وصولا إلى مجلس العموم والمناصب الوزارية، وبالطبع يساعد على ذلك انتشار اللغة الإنجليزية في المستعمرات التى ترسل هؤلاء المهاجرين.
وفي المحصلة فقد شهدت الألفية الجديدة صعودا منتظما للأقليات على الساحة الأوروبية، وبالذات في الدول ذات المستعمرات السابقة، وأولها بريطانيا وفرنسا. وشهدت الانتخابات البريطانية الأخيرة أكبر صعود للأقليات والتنوع في مجلس العموم العريق. وفي أنحاء أخرى من القارة الأوروبية يقف أمام صعود الأقليات العرقية محاولات يائسة لليمين المتطرف ودعاة الشوفونية مثل تيار ماري لوبن في فرنسا وخيرت فيلدرز في هولندا. مع ذلك فإن محتمات الديمغرافيا وتوجه العالم نحو اقتصاد ومجتمع مفتوح تنبئ بتواصل صعود كبير للأقليات في مجالات السياسة والمجتمع الأوروبي.