مقالات

الأقليات في الانتخابات الأوروبية

4-9-2024 | 16:23

بقلم : د. علي سليمان - رئيس‭ ‬جمعية‭ ‬العاملين‭ ‬بالأمم‭ ‬المتحدة

عبر‭ ‬ربع‭ ‬القرن‭ ‬الماضي‭ ‬تغير‭ ‬المشهد‭ ‬السياسي‭ ‬الأوروبي‭ ‬تغيرا‭ ‬كبيرا‭ ‬بدخول‭ ‬أبناء‭ ‬المهاجرين‭ ‬من‭ ‬آسيا‭ ‬وإفريقيا‭ ‬والأقليات‭ ‬العرقية‭ ‬والدينية‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬الفن‭ ‬والرياضة‭ ‬بل‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬المعترك‭ ‬السياسي،‭ ‬حيث‭ ‬فاز‭ ‬بعضهم‭ ‬في‭ ‬الانتخابات‭ ‬النيابية‭ ‬وبالمناصب‭ ‬الحكومية‭. ‬

وينبئنا‭ ‬التحليل‭ ‬السياسي‭ ‬والاجتماعي،‭ ‬وكذا‭ ‬تؤكد‭ ‬الخبرة‭ ‬التاريخية،‭ ‬أن‭ ‬صعود‭ ‬الأقليات‭ ‬شيء‭ ‬محتوم‭ ‬مع‭ ‬انتشار‭ ‬أفكار‭ ‬الحرية‭ ‬والمساواة،‭ ‬وبسبب‭ ‬تزايدهم‭ ‬العددي‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬المهجر‭. ‬ففي‭ ‬الولايات‭ ‬المتحدة‭ ‬مثلا‭ ‬صعد‭ ‬الإيطاليون‭ ‬وأبناء‭ ‬أيرلندا‭ ‬خلال‭ ‬جيلين‭ ‬أو‭ ‬ثلاثة‭ ‬إلى‭ ‬أعلى‭ ‬المناصب‭ ‬بعد‭ ‬عقود‭ ‬من‭ ‬الاضطهاد‭ ‬والانزواء،‭ ‬وتبعهم‭ ‬الأقليات‭ ‬السوداء‭ ‬من‭ ‬أمريكا‭ ‬اللاتينية‭ ‬بعد‭ ‬معاناتهم‭ ‬لسنوات‭ ‬من‭ ‬التمييز‭ ‬والعنصرية‭.‬

وفي‭ ‬أوروبا‭ ‬كان‭ ‬نجاح‭ ‬الأقليات‭ ‬في‭ ‬المجال‭ ‬السياسي‭ ‬متفاوتا‭ ‬حسب‭ ‬الدول‭. ‬فدولة‭ ‬مثل‭ ‬فرنسا‭ ‬تصل‭ ‬فيها‭ ‬الأقليات‭ ‬الأجنبية‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬يربو‭ ‬علـــــــى‭ ‬10‭ % ‬من‭ ‬السكان،‭ ‬وبرغم‭ ‬تفوقهم‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬الرياضة‭ ‬والفن،‭ ‬فإن‭ ‬تمثيلهم‭ ‬النيابي‭ ‬وفي‭ ‬أروقة‭ ‬الحكومة‭ ‬ضئيل‭(‬أقل‭ ‬من‭ ‬3‭ %). ‬وكثير‭ ‬من‭ ‬الناجحين‭ ‬في‭ ‬مجال‭ ‬السياسة،‭ ‬‮ ‬ومنهم‭ ‬عدد‭ ‬من‭ ‬الوزيرات‭ ‬في‭ ‬حكومات‭ ‬ساركوزي،‭ ‬وصلن‭ ‬بسبب‭ ‬تخليهن‭ ‬عن‭ ‬أي‭ ‬شبهة‭ ‬ارتباط‭ ‬بثقافتهن‭ ‬القديمة،‭ ‬وإعلائهن‭ ‬للقيم‭ ‬الفرنسية‭ ‬في‭ ‬الملبس‭ ‬والسلوك‭ ‬وحتى‭ ‬في‭ ‬الزواج‭ ‬من‭ ‬فرنسي‭ ‬أبيض‭. ‬وقد‭ ‬يرجع‭ ‬قلة‭ ‬نصيب‭ ‬الأقليات‭ ‬في‭ ‬المعترك‭ ‬السياسي‭ ‬إلى‭ ‬قوة‭ ‬الثقافة‭ ‬الوطنية‭ ‬الفرنسية،‭ ‬إلى‭ ‬جانب‭ ‬تحفظ‭ ‬المهاجرين‭ ‬وعدم‭ ‬إقبالهم‭ ‬على‭ ‬العمل‭ ‬العام،‭ ‬وكذا‭ ‬إلى‭ ‬النظام‭ ‬الانتخابي‭ ‬نفسه‭ ‬الذي‭ ‬يتطلب‭ ‬النجاح‭ ‬بنسبة50‭%+‬1‭ ‬،‭ ‬وليس‭ ‬النجاح‭ ‬بالقائمة‭ ‬النسبية‭ ‬أو‭ ‬فقط‭ ‬على‭ ‬أعلى‭ ‬الأصوات‭.‬

‮ ‬وبالمقابل‭ ‬في‭ ‬المملكة‭ ‬المتحدة،‭ ‬حيث‭ ‬وجدت‭ ‬الأقليات‭ ‬لمدة‭ ‬أطول‭ ‬والنظام‭ ‬الانتخابي‭ ‬مختلف،‭ ‬حققت‭ ‬الأقليات‭ ‬وخصوصا‭ ‬من‭ ‬المستعمرات‭ ‬السابقة،‭ ‬وبالذات‭ ‬شبه‭ ‬القارة‮ ‬‭ ‬الهندية‭ ‬والكاريبي،‭ ‬إنجازات‭ ‬كبيرة‭. ‬وينضوي‭ ‬أبناء‭ ‬المهاجرين‭ ‬في‭ ‬الأحزاب‭ ‬القائمة،‭ ‬ويستفيدون‭ ‬من‭ ‬تجمعاتهم‭ ‬في‭ ‬المدن‭ ‬الصناعية‭ ‬القديمة‭ ‬ولندن‭. ‬ومثّل‭ ‬السيد‭ ‬“صادق‭ ‬خان”‭ ‬لمنصب‭ ‬عمدة‭ ‬لندن‭ ‬علامة‭ ‬مهمة‭ ‬لهذا‭ ‬التحول‭ ‬الكبير‭. ‬تلا‭ ‬ذلك‭ ‬وصول‭ ‬مسلم‭ ‬آخر‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬باكستانية،‭ ‬هو‭ ‬حمزة‭ ‬يوسف،‭ ‬في‭ ‬يونيه‭ ‬2023،‭ ‬لمنصب‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬إسكتلندا،‭ ‬وان‭ ‬لم‭ ‬يستمر‭ ‬إلا‭ ‬لعام‭ ‬واحد‭. ‬ومع‭ ‬هذه‭ ‬المقدمات‭ ‬لم‭ ‬يتوقع‭ ‬أحد‭ ‬أن‭ ‬بريطانيا‭ ‬البيضاء‭ ‬سوف‭ ‬تنتخب‭ ‬رئيس‭ ‬وزراء‭ ‬أسمر،‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬بسبب‭ ‬اللون،‭ ‬ولكن‭ ‬لأن‭ ‬رئاسة‭ ‬الوزراء‭ ‬في‭ ‬بريطانيا،‭ ‬وبالذات‭ ‬من‭ ‬حزب‭ ‬المحافظين،‮ ‬ترتبط‭ ‬بعوامل‭ ‬ثقافية‭ ‬واجتماعية‭ ‬ومالية‭ ‬معقدة،‭ ‬ومنها‭ ‬الانتماء‭ ‬لمدارس‭ ‬القمة‭ ‬والأصل‭ ‬الاجتماعي‭ ‬والقدرة‭ ‬المالية‭. ‬

‮ ‬وهكذا‭ ‬وصل‭ ‬ريشي‭ ‬سوناك‭ ‬الهندي‭ ‬إلى‭ ‬10‭ ‬دوننج‭ ‬استريت‭ ‬بعد‭ ‬القلاقل‭ ‬على‭ ‬قمة‭ ‬حزب‭ ‬المحافظين‭ ‬بعد‭ ‬سقوط‭ ‬بوريس‭ ‬جونسون‭ ‬وخليفته‭ ‬تراس‭ ‬التي‭ ‬بقت‭ ‬في‭ ‬الحكم‭ ‬فقط‭ ‬42‭ ‬يوما‭. ‬وساعده‭ ‬ليس‭ ‬فقط‭ ‬تعليمه‭ ‬العالي‭ ‬ونجاحه‭ ‬في‭ ‬إدارة‭ ‬الأموال،‭ ‬ولكن‭ ‬أيضا‭ ‬المساندة‭ ‬المادية‭ ‬لزوجته‭ ‬الثرية‭ ‬التى‭ ‬تبرعت‭ ‬لحزب‭ ‬المحافظين‭ ‬بما‭ ‬يقرب‭ ‬من‭ ‬20‭ ‬مليون‭ ‬جنيه‭ ‬إسترليني‭.‬

ولقد‭ ‬أظهرت‭ ‬دراسة‭ ‬أكاديمية‭ ‬أن‭ ‬الهنود‭ ‬‮ ‬من‭ ‬الديانة‭ ‬الهندوسية،‭ ‬والكثير‭ ‬منهم‭ ‬من‭ ‬أصحاب‭ ‬الأعمال‭ ‬الصغيرة،‭ ‬والعاملين‭ ‬في‭ ‬البنوك‭ ‬والأعمال،‭ ‬ينضمون‭ ‬عادة‭ ‬إلى‭ ‬حزب‭ ‬المحافظين‭. ‬وبالمقابل‭ ‬فإن‭ ‬المسلمين‭ ‬ينتمون‭ ‬إلى‭ ‬حزب‭ ‬العمال‭. ‬ولقد‭ ‬أسفرت‭ ‬الانتخابات‭ ‬الأخيرة،‭ ‬5‭ ‬يوليو‭ ‬2024،‭ ‬عن‭ ‬نجاح‭ ‬نحو‭ ‬26‭ ‬عضوا‭ ‬من‭ ‬أصول‭ ‬هندية،‭ ‬و25‭ ‬عضوا‭ ‬مسلما‭. ‬ويمثل‭ ‬العدد‭ ‬الأخير‭ ‬أكبر‭ ‬نجاح‭ ‬لمرشحين‭ ‬مسلمين‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬العموم،‭ ‬وكان‭ ‬عددهم‭ ‬19‭ ‬في‭ ‬انتخابات‭ ‬2019‭.  ‬وإلى‭ ‬جانب‭ ‬الأقليات‭ ‬من‭ ‬شبه‭ ‬القارة‭ ‬الهندية‭ ‬هناك‭ ‬أيضا‭ ‬الأقلية‭ ‬السوداء‭ ‬من‭ ‬إفريقيا‭ ‬والكاريبي‭. ‬وكانوا‭ ‬أسرع‭ ‬وصولا‭ ‬إلى‭ ‬مجلس‭ ‬العموم‭ ‬والمناصب‭ ‬الوزارية،‭ ‬وبالطبع‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬ذلك‭ ‬انتشار‭ ‬اللغة‭ ‬الإنجليزية‭ ‬في‭ ‬المستعمرات‭ ‬التى‭ ‬ترسل‭ ‬هؤلاء‭ ‬المهاجرين‭. ‬

وفي‭ ‬المحصلة‭ ‬فقد‭ ‬شهدت‭ ‬الألفية‭ ‬الجديدة‭ ‬صعودا‭ ‬منتظما‭ ‬للأقليات‭ ‬على‭ ‬الساحة‭ ‬الأوروبية،‭ ‬وبالذات‭ ‬في‭ ‬الدول‭ ‬ذات‭ ‬المستعمرات‭ ‬السابقة،‭ ‬وأولها‭ ‬بريطانيا‭ ‬وفرنسا‭. ‬وشهدت‭ ‬الانتخابات‭ ‬البريطانية‭ ‬الأخيرة‭ ‬أكبر‭ ‬صعود‭ ‬للأقليات‭ ‬والتنوع‭ ‬في‭ ‬مجلس‭ ‬العموم‭ ‬العريق‭. ‬وفي‭ ‬أنحاء‭ ‬أخرى‭ ‬من‭ ‬القارة‭ ‬الأوروبية‭ ‬يقف‭ ‬أمام‭ ‬صعود‭ ‬الأقليات‭ ‬العرقية‭ ‬محاولات‭ ‬يائسة‭ ‬لليمين‭ ‬المتطرف‭ ‬ودعاة‭ ‬الشوفونية‭ ‬مثل‭ ‬تيار‭ ‬ماري‭ ‬لوبن‭ ‬في‭ ‬فرنسا‭ ‬وخيرت‭ ‬فيلدرز‭ ‬في‭ ‬هولندا‭. ‬مع‭ ‬ذلك‭ ‬فإن‭ ‬محتمات‭ ‬‮ ‬الديمغرافيا‭ ‬وتوجه‭ ‬العالم‭ ‬نحو‭ ‬اقتصاد‭ ‬ومجتمع‭ ‬مفتوح‭ ‬تنبئ‭ ‬بتواصل‭ ‬صعود‭ ‬كبير‭ ‬للأقليات‭ ‬في‭ ‬مجالات‭ ‬السياسة‭ ‬والمجتمع‭ ‬الأوروبي‭.‬